الأربعون النووية الحديث السادس والثلاثون
عَن أبي هُريرةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ، عنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:
{مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَومٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ , وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَه، وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ}.
رواه مسلِمٌ بهذا اللفظِ.
شرح الحديث السادس والثلاثون
قوله صلى الله عليه وسلم: ((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)) فيه دليل على استحباب خلاص الأسير من أيدي الكفار بماله يعطيه،و على تخليص المسلم من أيدي الظلمة وخلاصه من السجن.يقال: إن يوسف عليه السلام لما خرج من السجن كتب على بابه : ((هذا قبر الأحياء، وشماتة الأعداء، وتجربة الأصدقاء)). ويدخل في هذا الباب الضمان عن المعسر، والكفالة ببدنه، لمن هو قادر عليه، أما العاجز فلا ينبغي له ذلك،وقال بعض أصحاب القفال: إن في التوراة مكتوباً: ((الكفالة مذمومة)) أولها ندامة وأوسطها ملامة، وآخرها غرامة)). فإن قيل:قال الله تعالى: {ومن جاء بالحسنة فله عَشْرُ أمثالها} [الأنعام:160]. وهذا الحديث يدل على أن الحسنة بمثلها لأنها قوبلت بتنفيس كربة واحدة،و لم تقابل بعشر كرب من يوم القيامة.
فجوابه من وجهين : أحدهما أن هذا من باب مفهوم العدد، والحكم المعلق بعدد لا يدل على نفي الزيادة والنقصان.
والثاني: أن كل كربة من كرب يوم القيامة تشتمل على أهوال كثيرة وأحوال صعبة ومخاوف جمة، وتلك الأهوال تزيد علىالعشرة وأضعافها. وفي الحديث سر آخر مكتوم يظهر بطريق اللازم للملزوم،وذلك أن فيه وعداً بإخبار الصادق: أن من نفس الكربة عن المسلم يختم له بخير، ويموت على الإسلام، لأن الكفار لا يرحم في دار الآخرة ولا ينفس عنه من كربه شيء، ففي الحديث إشارة إلى بشارة تضمنتها العبارة الواردة عن صاحب الإمارة، فبهذا الوعد العظيم فليثق الواثقون {لمثل هذا فليعمل العاملون} [الصافات:61].فأفضل العمل تنفيس الكرب.
وفي الحديث دليل على استحباب ستر المسلم إذا اطلع عليه أنه عمل فاحشة قال الله تعالى: {إنَّ الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة} [النور:19]. والمستحب للإنسان إذا اقترف ذنباً أن يستر علىنفسه، وأما شهود الزنا، فاختلف فيهم على وجهين، احدهما: يستحب لهم الستر، والثاني: الشهادة.
وفصل بعضهم فقال : إن رأوا مصلحة في الشهادة شهدوا، أو في الستر ستروا.
وفي الحديث دليل على استحباب المشي في طلب العلم،ويروى أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى داود عليه الصلاة والسلام:أن خذ عصا من حديد ونعلين من حديد وامش في طلب العلم حتى يتخرق النعلان وتتكسر العصا.
وفيه دليل على خدمةالعلماء وملازمتهم والسفر معهم واكتساب العلم منهم،قال الله تعالى حاكياً عن موسى عليه الصلاة والسلام: {هل أَتِبعُكَ على أن تعلمني مما علمت رُشداً} [الكهف:66].
وعلم أن هذا الحديث له شرائط، منها العمل بما يعلمه، وقال أنس رضي الله عنه: العلماء همتهم الرعاية، والسفهاء همتهم الرواية.
ومن شرائطه نشره قال الله تعالى: { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة لَيتَفَقَّهُوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} [التوبة:122]. وروى أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: ((ألا أخبركم عن أجود الأجواد)) قالوا بلى يا رسول الله، قال: ((الله أجود الأجواد، وأنا أجود ولد آدم، وأجودهم بعدي رجل علم علماً فنشره يبعث يوم القيامة أمةوحده ،ورجل بنفسه في سبيل الله حتى قتل)).
ومن شرائطه ترك المباهاة والممارة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من طلب العلم لأربعة دخل النار: ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يأخذ به الأموال، أو يصرف به وجوه الناس إليه )).
ومن شرائطه الاحتساب في نشره وترك البخل به، قال الله تعالى: {قل لا أسألكم عليه أجراً} [الأنعام:90].
ومن شرائطه ترك الأنفة من قول لا أدري، قال صلى الله عليه وسلم في علو مرتبته لما سئل عن الساعة: ((ما المسؤول عنها بأعلم من السائل)). وسئل عن الروح فقال : ((لا أدري)).
ومن شرائطه التواضع قال الله تعالى: { وعبادُ الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا} [الفرقان63]. قال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: (( يا أبا ذر احفظ وصية نبيك عسى أن ينفعك الله بها، تواضع لله عز وجل عسى أن يرفعك القيامة، وسلم على من لقيت من أمتي برَّها وفاجرها، والبس الخشن من الثياب، ولاتُرِدْ بذلك إلا وجه الله تعالى، لعل الكبر والحمية لا يجدان في قبلك مساغاً)).
ومن شرائطه احتمال الأذى في بذل النصيحة والاقتداء بالسلف الصالح في ذلك قال الله تعالى: {وأنه عن المنكر واصبر على ما أصابك} [لقمان:17]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما أوذي نبِّي مثل ما أوذيت)).
ومن شرائطه أن يقصد بعلمه من كان أحوج إلى التعليم، كما يقصد بالصدقة بالمال الأحوج فالأحوج، فمن أحيا جاهلاُ بتعليم العلم فكأنما أحيا الناس جمعياً، ومما قيل في تنبيه الغافل ورده إلى الطاعة.
قوله صلى الله عليه وسلم: ((إلا نزلت عليه السكينة)) هي فعيلة من السكون، أي الطمأنينة من الله، قال الله تعالى: {ألا بذكرِ تطمَئِنُّ القلوب} [الرعد:28]. وكفى بذكر الله شرفاً ذكر الله العبد في الملأ الأعلى.
قوله صلى الله عليه وسلم: ((ومن بطأ به عمله)) أي وإنكان نسيباً ((لم يسرع به نسبه)) إلى الجنة فيقدم العامل بالطاعة ولو كان عبداً حبشياً على غير العامل ولو كان شريفاً قرشياً، قال الله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات:13].
ترجمة الراوي
ليست هناك تعليقات